كيف نحيا مع الموت
أمل المصريميدانيمرت ساعات طويلة في المقابر وسط صراخات ونحيب وأصوات بكاء لأطفال كثر لم يكن أمامي سوي الاستسلام لأفكاري وصمت وحدتي حتى الانتهاء من مراسم دفن والدي، ورغم ان وقتها كنت شابة في أوائل العشرينات من عمري.
موت والدي لم تكن فاجعتي الأولي بل سبقها بأسابيع قليلة موت إحدى صديقاتي المقربات والتي ماتت فجأة بعد عرسها بأيام قليلة، وقتها فقدت لذه كل شيء في الحياة، لجمت حيويتي وأصبحت أحس بالقلق والخوف من المجهول وكذا بالعدم الذي يَنْخُر داخلي كأني مجرد بقايا جثة هامدة لا تنبض بالحياة، فقدت الأمل في كل شيء وأحسست بانعدام الجدوى من الوجود.
وتلاحقت الصدمات التي حاولت لاحقا تجاهلها بالانخراط في صخب الحياة التي ابتلعتني.
فكثير من الوجوه الّتي كانت بيننا ورحلت دون رجعة وكثيرة هي الأسماء الّتي نقرأها في صفحات النّعي والتّأبين وعديدة هي الجنائز الّتي مشينا فيها أو وقفنا إجلالا لمرورها وكم هي منتشرة أخبار ومشاهد الموت الّتي نسمعها ونشاهدها كلّ يوم وعند كل خبر لوفاة تظهر امامي فكرة واحدة تلح عليّ وهي فكرة الموت ولغزه الغامض وعلاقته بالحياة التي نحيا او التي نعتقد أننا نحياها.
فهذا خبر كتب بخط صغير ينعي الملحن الشاب محمد رحيم وغيره من الشباب الذين رحلوا عن عالمنا الغريب أنك ستقرأ خبر بجوار النعي يهنئ فنان أخر بقدوم مولوده أو زفافه، فإذا أردت معرفة ماهية الموت عليك أن تبحث في خبايا الحياة التي نعيش واسرارها فالموت والحياة وجهان لعملة واحدة ألا وهي "الوجود".
والغريب أننا البشر نموت في اليوم أكثر من مرة فكلّ خلايانا تموت الملايين منها لتبرز ملايين أخرى في توازن بديع بين نظامي الموت والحياة وعمليّات الهدم والبناء وقد يختلّ التّوازن وينهار أحد النّظامين لينتصر الآخر. "يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ" (سورة الروم، الآية 19).
ولكن لماذا نفجع من الموت رغم هروبنا من الحياة؟!
من أصعب الأمور التي تواجهنا اليوم هو الاستهتار بقيمة الحياة، فهذا شاب تجده يؤجل كل الأمور كنوع من” تكبّيَر الدماغ " ويأخذ كل الأمور باستخفاف يعيش حياته من وراء الشاشات ويوم بعد يوم تجد هذه النفس صارت لا تحيا للهدف الذي خُلِقَت لأجله وفقدت معنى حياتها ودخلت في دائرة الحزن والاكتئاب والملل وفي النهاية يموت دون أن يعيش الحياة الحقيقة.
فالموت يعرف علميّا بأنّه توقّف الكائنات الحيّة نهائيا عن القيام بأيّ نشاط وظيفي حيوي، وفي تعريفي فالموت أيضا هو توقف الإنسان عن التغير والتعلم والنجاح والتفاعل مع المجتمع.
أنه طالما أن الحياة مأساة، فدعنا على الأقل نحسن أوضاع المأساة، طالما أننا لم نحصل على ما نريد، وردّت لنا الحياة الصاع صاعين، دعنا ننشغل فقط بتحقيق الفائدة، ونحاول أن نشعر ببعض الرضا عن ذواتنا، والشعور بالرضا -من وجهة النظر تلك- يأتي بأن نؤدي واجبنا في الحياة بضمير، لأن ذلك قادر على إشعارنا ببعض السعادة، حينما نذهب إلى المنزل بعد أسبوع عمل طويل ونحن نشعر أننا "أدينا واجبنا".
قليلاً ما تجد من هو مهتم بخلاص نفسه .. وبالطبع عندما ينمو هذا الإحساس مع الإنسان يتأصل فيه .. وعندما يتربى الإنسان على الإستهتار تجد قدرته على أي فعل صارت بطيئة ضعيفة ..